رابطة الذخائر الإسلامیة

ثمرة العقل الإستقامة

رابطة الذخائر الإسلامیة

ثمرة العقل الإستقامة

رابطة الذخائر الإسلامیة

هدفنا الأول تبیین مبانی الفکر الانسانی و مبانی الفکر الإسلامی الأصیل
أیضا تعاون النخب و المتخصصین فی العالم العربی و الإسلامی فی رسم خطوات النهضة الفکریة الإسلامیة
و کشف قدرات أفراد المجتمع من الشباب و الشابات و تنمیتها...

الملتقيات و الأقسام
الأرشيف

۴ مطلب با موضوع «ملتقى إحیاء الفکر الإسلامی الأصیل :: قسم(4): الترجمة من الفارسية إلى العربية :: السيد محمد مهدي ميرباقري» ثبت شده است

مباني الأخلاق في الفكر الإسلامي

| Wednesday, 12 September 2018، 06:51 PM

بسم الله الرحمن الرحيم

مباني الأخلاق في الفكر الإسلامي 

دروس تم طرحها في سيهات سنة 1440هـ 

ت عنوان الدرس الرابط
1 إطلالة على أهمية البحث و منهج البحث 
2 آراء العلماء في العقل العملي
3 تبيين رأي المحقق الأصفهاني و نقده 
4 تبيين رأي الآخوند الخراساني و نقده
5 العقل العملي 5: تتمة 
6 العقل العملي 6: نظرية الشيخ المصباح 
7 العقل العملي 7: نظرية السيد العلامة 
8 العقل العملي 8: النظرية المختارة
  • 12 September 18 ، 18:51

القسمُ الثاني: موقعُ (عصر الظهور) في الحركةِ التاريخيةِ التكامليةِ

2/1- تفسيرُ (الظهور) بـ (تجلي الولايةِ الإلهيَّةِ في كلِّ الأبعادِ)

* أين تقعُ مسألةُ ظهورِ الإمامِ الحجَّةِ عجَّلَ اللهُ فرجه الشريفِ في حركةِ التاريخِ التكامليةِ التي ذكرتم؟

الجوابُ:

فُسِّرَت كلمةُ (الظهورِ) المذكورةِ في رواياتِنا بآخرِ الزَّمانِ. و نذكرُ  معْنَيَيْن لآخرِ الزمانِ:

أحدهما: آخر الزمانِ الذي هو زَمَنُ انتشارِ الباطلِ على الكُرَةِ الأرضيَّةِ بحيثُ يمتلِیءُ العالَمُ ظلمًا و جورًا حتى آخر مرحلةٍ في ظرفيةِ إبليسَ، و هذه النقطةُ هي بدايةُ سقوطِهِ الظّاهريِّ في عالَمِ الدنيا. و بعدَ تَحَقُّقِهَا تصلُ الولايةُ الإلهيةُ في عالَمِ الدنيا إلى منصَّةِ الظهورِ و الغَلَبَةِ. هذه المرحلةُ هي نهايةُ تاريخِ الدّنيا، المقصودُ منَ المرحلةِ النهائيةِ: مثلًا ليس هو قَرْنُ واحدٌ أو قرنَين أو عدَّةَ قُرُونٍ، لأنَّ المسافةَ منَ الظهورِ حتى القيامةِ و إن لم تُذكَرَ و تُبَيَّنَ بشكلٍ واضحٍ إلّا أنّه يستفادُ من بعضِ الرواياتِ أنّه سوف تتحقَّقُ -و لِزَمَنٍ طويلٍ- حُكُومَةُ الحَقِّ في عصرِ الظُّهُورِ الَّتي تدورُ مدارَ وِلايةِ الأنبياءِ و الأولياءِ خاصَّةً أنوار المعصومين عليهم السلام و الذي يُسَمَّى بزمنِ الرَّجْعَةِ.

لا نعني بعصرِ الظّهورِ آخر قرن من قرون هذه الدنيا؛ بل نعني به تحقُّقَ ظهورِ الولايةِ الالهيةِ في العالَمِ و ختْمِ ولايةِ إبليسَ و نهايةِ الغلبةِ الظاهريةِ لدولةِ الباطلِ، فتجري عبوديةُ اللهِ و تتجلّى في كلِّ جوانبِ حياةِ البشرِ.

2/1/1-  توجُّهُ الإنسان في عصرِ الظهورِ إلى آمالِ الأنبياء

س: أكثرُ المدارسِ التي بَحَثَت بنحوٍ من الأنحاءِ في فلسفةِ التاريخِ أعمُّ منَ المدارسَ الغربيّةِ و الشرقيةِ القديمةِ و الحديثةِ - نجدُها تناولت بحثَ نهايةِ الإنسانِ و مستقبلِ العالمِ، و تحدَّثت حولَ الإنسانِ و العالمِ الذي سوف يتحقَّقُ في نقطةِ كمالِ التاريخِ. الآن يُطرَحُ هذا السؤالُ أنه في فلسفةِ التاريخِ الاسلاميِّ، ما هي خصوصياتُ الإنسانِ و العالمِ الآتي و ما هو الفرقُ بين ذلك الانسانِ و العالمِ المطلوبِ مع ما رَسَمَتْه المَدَارِسُ الأخرى من تصوُّراتٍ حولَ هذا الموضوعِ؟

الجوابُ:

إذا قَبِلنا بوجودِ حركتين طوالَ التاريخِ هما عبارةٌ عن حرکةِ الحقِّ و حركةِ الباطلِ، الإيمان و الكفر، و قبلنا أنّ الغلبةَ في النهايةِ تكونُ لصالحِ الحقِّ و الإيمانِ و أنّه في النهايةِ تظهرُ الولايةِ الإلهيةِ في كلِّ العالمِ ؛ فإنّنا بالطبعِ سوف نقبَلُ بأنَّ المجتمعَ الموعودَ هو المجتمعُ الذي يكونُ فيه الإنسانُ غيرَ الإنسانِ بحيثُ تختلفُ آمالَه و إراداتِه عمّن يعيشُ في مجتمعِ الباطلِ.

تعلمونَ أنَّه في جبهةِ الباطلِ يتنزلُ الإنسانُ إلى مستوى الأبعادِ الظاهريةِ ويتبدلُ إلى موجودٍ محدودٍ بعالمِ الترابِ وينشغلُ بأُمنياتِه النفسانيةِ وميولِها، فتصبحُ كلَّ مساعيه وجهودِه مُنصَبَّةً على تحقيقِ اللذةِ في هذا البُعدِ منْ وجودِهِ. فالآمالُ التي يبحثُ عنها في جبهةِ الباطلِ و إن أَطلقوا عليها مسمّى الرفاهِ و الحضارةِ فإنّها جميعَها تقعُ في دائرةٍ دنيويةٍ ضيّقةٍ و تتلخّصُ كلُّ إراداتِهم في دنيا مليئةٍ بالرفاهيةِ و الأمانِ و الحرّيّةِ المادّيّتين -بالمعنى الذي تمَّ تبيينُه-.

لكن في المجتمعِ الفاضلِ الذي هو أملُ الأنبياءِ و أولياءِ اللهِ فتتغيرُ فيه حتى التعاريفِ؛ و إن كان منَ الممكنِ أن يَبحثَ الإنسانُ فيه عنِ اللّذةِ لكنَّ اللذاتِ تتلخَّصُ فيه في لذّةِ العبوديةِ و يصبِحُ مصداقًا لهذا القولِ: (أستغفرك من كلِّ لذَّةٍ بغيرِ ذِكرِكَ ومن كلِّ سرورٍ بغيرِ قُربِك و من كلِّ راحةٍ بغيرِ أُنسك و من كلِّ شغلٍ بغيرِ طاعتِك)[1].

مَن لَذَّتُه في الذكرِ، سرورُه في قربِ الحقِّ، و راحتُهُ في الأُنسِ مع اللهِ تعالى تصبِحُ كلُّ حركاتِه مبتنیةً على أوامرَ اللهِ. تحرُّكُه إرادةُ اللهِ و مشيئتُه، إنسان عبد، ما يهمُّه هو العبوديةُ فقط و كلُّ شؤونِه الأخرى هي فرعٌ عن عبوديتِه، الإنسانُ الذي تربِّيه الأنبياءُ يختلفُ عن الانسان الذي تربِّيه المَدَارِسُ الماديَّةُ، التي تريدُ منَ الإنسانِ أن يبقى في عالَمِ الطبيعةِ، يربُّون إنسانًا قادرًا على الوصولِ إلى الإبتهاجِ الماديّ و يعرِّفون له الآمالَ و الأمنياتِ الدنيويةِ، في حينِ أنَّ أنبياءَ اللهِ يريدون إيصالَ هذا الإنسانِ إلى مستوى العبوديَّةِ ...يريدون تحريرَه من كلِّ التعلّقاتِ و المحدوديَّاتِ،  وبعدَ هذا التحريرِ، يصنعون منه عبداً. العبدُ الحقيقيُّ هو الانسانُ الذي يخرُجُ منْ كلِّ التعلقاتِ حتى التعلقِ بما قبلَ عالمِ الدّنيا، حیث ينشغلُ بالمولى فقط.

كما يقولُ أميرُ المؤمنين عليه السلام: (إنَّ قومًا عَبَدوا اللهَ شكرًا -حبّاً- فتلك عبادةُ الأحرارِ)[2] الحرُّ هو مَن يعبُدُ اللهَ لكن ما يحرّكُه نحوَ عبوديتِه ليس طلبًا لمنفعةٍ أو رفعًا لخطرٍ ما، بل إنِّ المحرّكَ له هو اللهُ دونَ سواهُ و شكره و حبه إيّاه.

أنبياءُ اللهِ يريدون إيصالَ الإنسانِ إلى هذا المستوى. فالإنسانُ في عصرِ الظهورِ هو الذي يتَّصفُ بصفاتِ الإنسانِ المطلوبِ تحقيقُهُ عندَ الأنبياءِ والألطفُ هو أنَّ هذه الصفاتِ والخصوصياتِ تظهرُ في كلِّ أبعادِ الحياةِ الإجتماعيةِ، فلا يكونُ الإنسانُ عبدًا في جلواتِه الباطنيةِ فقط، ثم تجده يبحثُ عن أطماعِه في الحياةِ الدنيويةِ. نغمةُ كلِّ الحياةِ البشريَّةِ في عصرِ الظهورِ هي نغمةُ العبوديّةِ، يعني أنَّ الحياةَ البشريةَ تصبحُ مصداقًا لكلامِ أميرِ المؤمنين عليه السلام: (حتى تكونَ أعمالي وأورادي كلَّها ورداً واحداً وحالي في خدمتك سرمداً)[3] في ذلك العصرِ تصبحُ العلاقاتُ الاجتماعيةُ والعباداتُ الاجتماعيةُ ملكوتيةً أيضًا. كلُّ البشرِ يعبُدُون اللهَ في جميعِ أفعالِهم و سلوكيّاتِهم. في الحقيقةِ إنَّ ولايةَ وليِّ اللهِ تسري  في كلِّ جوانبِ حياةِ البشرِ، و هذا السَّرَيَانُ هو مبدأُ العبوديةِ و الحيَاةِ و النورِ.

لا أريدُ القولَ بأنَّ البشريةَ سوفَ تصلُ إلى العصمةِ، فالعصمةُ هي لتلك الأنوارِ الطاهرةِ عليهم السلام لكنْ يصلُ الجميعُ في عصرِ الظهورِ و في المجتمعِ الشيعيِّ الكبيرِ إلى مقامٍ بحيثُ تُصبحُ كلُّ سلوكيّاتِهم تابعةً إلى وليِّ اللهِ و تصبحُ حياتُهم الاجتماعيةُ شعاعَ إرادةِ وليِّ اللهِ و شعاعًا لشمسِ الولايةِ.

فالإنسانُ الآتي هو الانسانُ الذي تَربَّى على يدِ الأنبياءِ، والحياةُ الإجتماعيةُ هي مظهرُ ولايةِ وليِّ اللهِ ونورِ عبوديةِ اللهِ تعالى التي تسري في كلِّ جوانبِ الحياةِ.

2/1/2 تكاملُ الحاجاتِ و إرضائِها بمحوريةِ ولايةِ وليِّ اللهِ

* عندما يصوِّرُ غالبيةُ المتحدّثين و الكُتَّابِ عصرَ الظهورِ للناسِ فإنَّهم يشيرون إلى رواياتٍ تحملُ أخبارَ انتشارِ مظاهرَ الرَّفاهِ المادّيّ بينَ الناسِ في عصرِ الظهورِ، و انتشارِ النِّعمِ الظاهريةِ ككثرةِ المحصولاتِ الزّراعيةِ ، تربيةِ الماشيةِ ، وفرةِ النِّعمِ و الثرواتِ ، الخلاصِ من الفقرِ و الحاجةِ و... ، لكنَّ السؤالَ هو : هل أن الفرقَ بينَ عصرِ الظهورِ و ما قبلَه منَ العصورِ يتلخّصُ فيما ذُكِرَ من رفاهيَّةٍ مادّيّةٍ و راحةٍ و زيادةٍ في الأموالِ؟ أ لن يحدُثَ أيُّ تحولٍ ماهويٍّ في الإنسانِ و العالمِ؟ ما الفرقُ الجوهريّ بينَ عصرِ الظهورِ و ما سَبَقَهُ منْ عصورٍ ذلك الفرق الذي جعلَ البشريةَ تنتظرُ -قرونًا طويلةً-تُحققُ الظهورَ و جعلَها تتحملُ المصاعبَ للوصولِ إليه؟

الجوابُ:

لا شكَّ في ازديادِ النّعمِ الظاهريةِ و انتشارِ الرّفاهيةِ الماديةِ كما أنَّ هذا الأمرَ موجودٌ في الجنّةِ أيضًا، لكن كما أنَّنا لا نتمكنُ منَ المقارنةِ بينَ تنعُّمِ أولياءِ اللهِ و المؤمنينَ في الجنّةِ مع تنعُّمِ أهلِ الدنيا في الدنيا حتى من الناحيةِ الكمّيّةِ و الظاهريةِ، فإنّنَا لا يُمكِنُنَا المقارنةُ بينَ تنعُّمِ المُؤمنين في عصرِ الظهورِ -و الذي يُعتبَرُ مرتبةً من مراتبِ الجنّةِ المتجلِّيَةِ في الدنيا- مع تَنَعُّمِهم بنعمِ اللهِ فيما قبلَ الظهورِ.

لأنَّ الجنةَ عبارةٌ عن مراتبِ ولايةِ اللهِ تعالى والّتي تقعُ في طولِها أيضًا ولايةُ وليِّ اللهِ الأعظمِ. الجميعُ في ضيافةِ وليِّ اللهِ في الجنةِ وتتناسبُ درجتُهم ومستوى تنعُّمِهم معَ مقدارِ استغراقِهم في ولايةِ وليِّ اللهِ. نُقِلَت روايةٌ في الكافِي الشريفِ تُفيدُنا في فَهْمِ ما ذُكِرَ و هيَ عن عمَّارِ السّاباطيِّ عن الإمامِ الصادقِ عليهِ السلامُ: يقولُ سألْتُهُ عن تفسيرِ الآيةِ الشريفةِ (أفمنِ اتَّبَعَ رضوانَ اللهِ كمن باءَ بسخطٍ منَ اللهِ و مأواهُ جهنمُ و بئسَ المصيرِ هم درجاتٌ عندَ اللهِ)[4] فقالَ الإمامُ عليه السلام (الذين اتبعوا رضوانَ الله همُ الأئمةُ و هم و اللهُ يا عمارُ درجاتِ المؤمنينَ و بولايتِهم و معرفتِهم إيَّانا يضاعِفُ اللهُ لهم أعمالَهم و يرفعُ لهم الدرجاتِ العُلَى)[5] فبميزانِ معرفتِنَا بالأئمةِ عليهمُ السلامُ و الاستغراقُ في ولايتهم تتكوَّنُ درجاتُ الإنسانِ الصعوديةِ و يتكاملُ ، و الجنّةُ في الواقعِ هي الإستغراقُ في درجاتِ ضيافةِ ولايةِ اللهِ.

بالإلتفاتِ إلى ماذُكِرَ يمكنُ القولُ أنَّهُ و إنِ انتشرت النعمُ الماديةُ على الأرضِ في عصرِ الظهورِ إلَّا أنَّ المسألةَ الأساسيةَ هي تغييرُ مفهومَيِ الحاجةِ و الإرضاءِ في هذا العصرِ، و الذَين قد يتّسعان وفقًا لمحورِ الإستكبارِ و الشيطنةِ ، و هذا ما يُفَسِّرُ حالةَ ابتهاجِ الإنسانِ بالمادّيّاتِ  و استغراقَ النفسِ فيها لكنْ يتغيرُ مفهومُ الحاجةِ وِفقًا لمحورِ الميلِ إلى القربِ و العبوديةِ، فلا يُلْحَظُ الإستكبارُ في أيِّ لذّةٍ، بلْ يُمْزَجُ مَذاقُ الإلتذاذِ بعبوديّةِ اللهِ تعالى بتلك اللذات. بعبارةٍ أخرى: الإلتذاذُ من ولايةِ اللهِ، أيْ أنَّ باطنَ لذّةِ أيِّ شيءٍ ليسَ إلَّا عبارةٌ عنِ الإبتهاجِ بالولايةِ، فالعاصي يبتهجُ بولايةِ إبليسَ و هُوَ ابتهاجٌ ظلماتيٌّ، لا قيمةَ له، في حين أنَّ ابتهاجَ المؤمنينَ يتناسبُ مع سعةِ ولايةِ وليِّ اللهِ الأعظمِ و هي نفسُ ولايةِ اللهِ، فابتهاجُهُم نورانِيٌّ و رحمانيٌّ، إنهم يبتهِجون باتّساعِ ولايةِ وليِّ اللهِ في باطنِهم؛ لأنَّه معَ كلِّ فعلٍ منْ أفعالِهم يتولَّون بوَلِيِّ اللهِ فتقعُ نورانيةُ وليَّ اللهِ فيهم. حقيقةُ جنّتِهم هيَ الإبتهاجُ بالولايةِ و درجاتِ القربِ أيضًا، إذن قد تتَّسِعُ الحاجاتُ والإرضاءاتُ تحتَ ولايةِ إبليسَ فتظهَرُ الكَثرَةُ في تلكَ الحاجاتِ، فتَتَحَوَّلُ هذه الحضارةُ المادّيَّةُ إلى حضارةٍ معَقَّدةٍ ممتلئةٍ بكلِّ حاجاتِ الإنسانِ الّتي يَرَى فيها شهواتِه و أهوائِه.كما قد تتَّسِعُ الحاجاتُ و الإرضاءاتُ تحت ولايةِ وليِّ اللهِ ، فيحصُلُ الإبتهاجُ المَلَكُوتيُّ في هذه الدّارِ الدنيا، بتعبيرِ أميرِ المؤمنين عليه السلام في الخطبةِ القاصعةِ : (وإنِّي لَمِنْ قومٍ لا تأخُذُهم في اللهِ لومةُ لائمٍ سيماهم سيما الصّدّيقين و كلامُهُم كلامُ الأبرارِ...)[6] إلى أن يقولَ : (قلوبُهم في الجِنانِ و أجسادُهم في العملِ) حيثُ قلوبُهم غارقةٌ في جنانِ رحمةِ اللهِ.

فالإنسانُ الذي يضعُ رِجلَيْه على الأرضِ و قلبُهُ في الجنانِ، ابتهاجاتُهُ هي عبارةٌ عن ابتهاجاتٍ مَلَكُوتِيَّةٍ و ليست من ابتهاجاتِ هذه المرحلةِ الدنيا منَ العالَمِ.

يختلِفُ الإنسانُ المؤمنُ عنِ الكافرِ حتى في أَكلِهِ، حتى في لَذّتِهِ مِنَ النّكاحِ، تصبحُ لذاتٍ ملكوتيةٍ .

بالطبعِ إنَّ من لَم يصلْ إلى هذه الدّرجاتِ فإنَّه يَعْتَبِرُ أنَّ هذه المسائلَ من صنعِ الخيالِ، مُتغافلًا عمَّا جاءَ في تعاليمِ الأنبياءِ منْ أنَّ لذَّةَ المؤمنِ تابعةٌ لإيمانِهِ و درجاتِه الإيمانيَّةِ، ففي عصرِ الظّهورِ تختلفُ المفاهيمِ: مفهومُ اللّذّةِ، مفهومُ الحاجَةِ، مفهومُ الكمالِ، مفهومُ الإبتهاجِ، كما تختلِفُ مناشئَهَا أيضًا.

2/1/3 وصولُ المؤْمنينَ إلى الأسماءِ الباطِنيةِ و كمالِ العقلِ

 عندما تظهرُ ولايةُ وليِّ اللهِ و تَتَجَلَّی يحصُلُ الإنسجامُ بينَ الإراداتِ الإنسانيةِ و الطبيعة، و مِنَ الطبيعيِّ أنْ تضَعَ الطبيعةُ نِعَمَهَا تحتَ تَصَرُّفِه،  و عندما تَجرِي ولايةُ وَلِيِّ اللهِ في قلوبِ النَّاسِ ، فإنَّ النّاسَ تتصرَّفُ بأسماءٍ ليست بينَ يدييها في الوقتِ الحاليّ و الّتي قد يعبَّرُ عنها بالعلوم الباطنيّةِ، فالناسُ عن طريقِ العلومِ الباطنيَّةِ تتسلّطُ على طبقاتٍ من هذا العالَمِ ، فتنفُد إراداتُهم إلى أعماقِ الطّبيعةِ فيَصِيرُ بإمكانِهِم التَنَعُّمُ و الوصولُ إلى نِعَمٍ باطنِيَّةٍ في هذا العالمِ الماديِّ، هم في ابتهاجِهِم و تَنَعُّمِهِم غَارِقُونَ في وليِّ اللهِ، و يعملون حسْبَ ما يتناسبُ مع المشيئةِ و لا يتخلَّفُونَ حتَّى الوصول إلى لذّاتِهم الشَّهْوانيّةِ، إنَّ اللّذّةَ المُحَلَّلَةَ تختلِفُ عندَهم أيضًا عنِ الآخَرِين، إذن تتغيَّرُ سِعَةُ تسخيرِ الطبيعةِ حيثُ يُسَخِّرُ اللهُ تعالى للإنسانِ طبقاتٍ أعمقُ فيها، كما يَصِلُ في الحضارةِ الماديةِ إلى حيثُ يتحكَّمُ حتى في الطاقةِ الكامنةِ في باطنِ البذورِ فیتمکن من تحقيقِ الكثيرِ من الأمورِ باستخدامِهَا.

لكن للطبيعةِ طبقاتٌ أكثرُ خَفَاءً، و هي عبارةٌ عنِ الأسماءِ، و العلومِ الباطنيةِ المختصَّةِ بالمؤمنينَ والّتي لا تقعُ في دائرةِ تصرُّفِ مؤمنٍ واحدٍ أو اثنين بل في عصرِ الظهورِ سوف ينعَمُ عمومُ المؤمنين بها. في ذلك العصرِ تكتملُ العقولَ، وتتّسِعُ العلومُ الباطنيةُ والشهودُ و المكاشفةُ العامةُ. وأظنُّ أنَّ بإمكانِ جميعِ الشيعةِ الوصولُ إلى الإمامِ الحجّةِ عجَّلَ اللهُ فرجهُ الشريفِ.

 إنَّهم -مع كلِّ تلك النِّعَمِ- یُبتلون في مدى تسخيرهم كلَّ هذه الجلواتِ في مسيرِ وليِّ اللهِ، بحيثُ يستغرقونَ في ولايةِ وليِّ اللهِ فيكونُ أساسُ ابتهاجِهِم هو الإبتهاجُ بولايةِ وليِّ اللهِ، و مسرّاتِهِم و نشاطِهِم ، فيُقدّمون كلَّ ما يسرُّهم فداءً لهذا النشاطِ، و هذا الإمتحانُ هوَ أحدُ الإمتحاناتِ الصّعْبةِ في عصرِ الظهورِ.

فالخصوصيةُ الأساسيةُ في عصرِ الظهورِ هي ظهورُ ولايةِ وليِّ اللهِ، التي هي عبارةٌ عن عروةِ العبوديةِ الوثقى.

في عصرِ الظهورِ ، يحصلُ استحكامٌ في العبوديةِ كما يتحققُ أيضًا الصراطُ الذي تُختَمُ به كلُّ السبلِ حتى سبل الأنبياءِ  و هو نفسُ حقيقةِ ولايةِ وليِّ اللهِ الأعظمِ (عجل اللهُ تعالى فرجه الشريف) فتتجلَّى في الحياةِ البشريَّةِ العامَّةِ نورُ الحقِّ، و هدايتِه، و تظهرُ الحياةُ و ... ، تصلُ البشريةُ إلى منزلةٍ جديدةٍ من الحياةِ و النورِ: (و اعلم أنَّ اللهَ يُحيِي الأرضَ بعدَ موتِها) أو (أشرقتِ الأرضُ بنور ربِّها) هناك آياتٌ أخرى فَسَّرَت مختصَّاتُ الظهورِ على أساسِ محورِ ولايةِ وليِّ اللهِ و ظهورِ ولايتِه و تجلِّي الأمرِ الإلهيّ.

أصلُ المسألةِ هو أنَّ الناسَ في عصرِ الظهورِ تلتَفُّ حولَ وليِّ اللهِ فتمتلئُ قلوبُهم بنورِ المحبةِ، و تجري شعلةُ المحبةِ من قلوبِهم على ألسنتِهم، وليُّ الله هو المعشوقُ الحقيقيُّ أي أنَّ معشوقَهم الحقيقيَّ هو اللهُ تعالى و إلى جانبِ اللهِ تعالى يحِبون وليَّه و كلُّ لذّاتِهم و ابتهاجاتِهم تتلخَّصُ في تنعُّمِهِم بولايةِ وليِّ اللهِ أكثرَ فأكثرَ؛ من الطبيعيِّ أن يتصرفَ هؤلاءِ في كلِّ العالمِ كما هو الحالُ في الجنةِ.

لايريدُ أهلُ الجنةِ في الآخرةِ اللهوَ و اللعِبَ ، هم مجذوبون في الولايةِ؛ كلُّ ما يريدونه هو الخيرُ و الحقُّ و الإبتهاجُ بالقرب. المجتمعُ الَّذي هو أملُ الإمامِ صاحبِ الزَّمان عجَّل اللهُ فرجه الشريفِ هو المجتمعُ الَّذي يريدُه الأنبياءُ و أوصياؤُهم، و ليس هو المجتمعَ القائمَ على الحضارةِ الماديةِ ، بل هو مجتمعٌ قائمٌ على العبوديةِ و فيه يتَّجِه كلُّ البشرِ للهِ تعالى، مبتهجين بعبوديَّتِهم. يصلُ البشرُ إلى منزلةٍ تُحيِيهم فیها محبةُ الربِّ و الشوقِ إلى اللقاءِ. و تلك المشاعرِ و الحنينِ الذي تموجُ به قلوبَهم ! إنَّ أساسَ تنعُّمِهم هو التنعّمُ بالقربِ و ضيافةِ اللهِ تعالى ، و إن تنعَّموا بالنِّعمِ الماديةِ فإنَّ ابتهاجَهم في أنَّ هذه الأمورَ هي من ضيافةِ اللهِ تعالى لهم.

 

* هل يمكنُ أن نفهمَ من كلامِكم أنَّ المجتمعَ الموعودَ الذي رسَمَه الإسلامُ هو المجتمعُ الَّذي يدورُ حولَ محورِ الإنسانِ الكاملِ؛ أي المجتمعُ الّذي أساسُه هو كمالُ الإنسانِ و تحوُّلُه؟ غالبًا ما تشيرُ الرواياتِ المتعلقة بعصرِ الظهورِ ، إلى تحوُّلِ الإنسانِ و تكاملِه في ذلك العصرِ، كروايةِ الإمامِ الباقرِ عليهِ السلامِ (إذا قام قائمُنا وضعَ اللهُ يدَه على رؤوسِ العبادِ فجمعَ بها عقولَهم و كمُلَت به أحلامُهم) أو الرواياتُ الّتي تتكلمُ عن إحياءِ الناسِ و العالَمِ بعدَ الظهورِ ، كالروايةِ المنقولةِ عنِ الإمامِ الباقرِ عليهِ السلام (يُحيِيها -الأرض- اللهُ عزَّ و جلَّ بالقائمِ بعدَ موتِها) و لذلك نطلبُ من اللهِ في دعاءِ العهدِ أن يحيي عبادَه بظهورِ الإمامِ المهديِّ عجلَ اللهُ فرجه (و أحیي به عبادَك) فهل يمكنُ أن نقولَ أنَّ أهمَّ تحوُّلٍ يقعُ في عصرِ الظهورِ هو إحياءُ الإنسانِ و وصولِه إلى الحياةِ الواقعيَّةِ و الحياةِ الطيّبَةِ و أمَّا التحولاتُ الأخرى التي تحصُلُ في العالَمِ ، سواءً في عالمِ المادَّةِ أو في مظاهرِ الحياةِ الإنسانيةِ كلُّها تابعةٌ إلى هذا التحولِ الأساسيِّ الَّذي يحصُلُ في الإنسانِ ابتداءً؟! ببيانٍ آخَرَ هل يمكِنُنَا أن نعبِّرَ بالتعبيرِ الآتي: أنَّ الظهورَ يقعُ بالأصالةِ للإنسانِ الكاملِ حتى يوجدُ الإنسانُ الذي يصِلُ إلى الحياةِ الطيبةِ وعندما يتحقَّقُ الإنسانُ الكاملُ بكلِّ خصوصيَّاتِه، فإنَّ كلَّ العالمِ يرافقُه و تضعُ الأرضُ كلَّ نِعَمِها تحتَ تصرُّفِه؟

الجوابُ: نعم، أنا أتَّفِقُ معكم تقريبًا فيما ذكرتم لكن لابدَّ من توضيحِ هذا الموضوعِ، إنَّ أهمَّ عملٍ يقومُ به وليُّ اللهِ في الواقعِ هو التصرُّفُ في أرواحِ الناسِ، حيثُ يجِدُ النَّاسَ الذين لديهِم قابلیَّةُ قبولِ الولايةِ فيرعى قابليَّتَهم و يُفَعِّلُها لتُصبِحَ موضوعًا لتَصَرُّفِه، ينفَخُ فيهم أرواحٌ أخرى و يوصِلُهم إلى منزلةٍ أخرى من منازلِ الحياةِ. عندما تختلفُ منزلةُ حياةِ الإنسانِ، فإنَّ منزلةَ حاجاتِهِ، إراداتِهِ، و مُيُولِه تختلفُ أيضًا، و ترجعُ جيمعُها إلى نوعِ الحياةِ الطيِّبةِ الَّتي تجري فيها نورانيَّةُ وليِّ اللهِ و معارفِه. يمكنُ استنتاجُ هذه النتيجةَ من رواياتٍ كثيرةٍ كالرواياتِ التي ذُكِرَت في ذيلِ الآيةِ (ماء معين) في سورةِ الملكِ، و (ماء غدقاً) في سورة الجن. حيث فَسَّرَت كِلا المَعْنَيَينِ بوليِّ اللهِ و معارفِه.

في عصرِ الظهورِ تجري معارفُ وليِّ اللهِ الرَّبَّانيَّةِ والمَلَكوتيَّةِ في القلوبِ فتوجِدُ -هذه المعارفُ- مراتبَ جديدةً من روحِ الحياةِ و النّورانيةِ. في هذا العصرِ تظهرُ حركةٌ نوريَّةٌ معرفيةٌ من سِنخٍ مختلفٍ. بالإضافةِ إلى أنَّ تصرُّفَ وليِّ اللهِ في العالمِ ينفخُ فيه حياة أخرى .. في كلِّ المَوْجوداتِ . حتى جاء في بعضِ ما نُقِلَ أنَّ سلوكَ الحيواناتِ يختلفُ أيضًا ، أي تتَّسِعُ قابليَّتُها و تصبحُ أكثرَ رشدًا ، يمكنُ القولُ بأنَّ هناك تناغمًا تكامليًّا منسجمًا يقعُ في كلِّ جزئياتِ العالَمِ ، الهدفُ الأساسُ من ولايةِ وليِّ اللهِ هو إيصالُ الإنسانِ إلى المُستوى الَّذي يمكِّنُه من إدراكِ نعمِ اللهِ و الحصولِ عليها. إنَّ نعمَ اللهِ أكثرُ بكثيرٍ ممّا نراه في عالمِ الحِسِّ، حتى في هذه الدنيا فإنَّ دَرْكَ هذه النِّعمِ والحصولَ عليها يرتبطُ بكمالِ الإنسانِ. الإنسانُ الذي يصلُ إلى درجاتِ القربِ، الإنسانُ الذي تُنفَخُ فيه درجاتٌ منَ الحياةِ الطيِّبَةِ، يجدُ ظرفيّةٌ منَ الإدراكِ ويحصُلُ على ولايةِ وليِّ اللهِ، وظرفيَّةُ إدراكِ أمرُ اللهِ ورحمتُه. هذا هو التحوُّلُ الأساسيُّ الذي يحدثُ في عصرِ الظهورِ. الناسُ في ذلك العصرِ، يصبحون ربَّانيِّين قد نُفِخَ فيهم شعاعُ وليِّ اللهِ ونورُ الولايةِ.

بعبارةٍ أخرى: يجري الماءُ المَعينُ لولايةِ وليِّ اللهِ على قلوبِهم فتظهر مفاهيم أخرى لالتذاذهم و ابتهاجهم و نشاطهم و حركتهم و  راحتهم.

2/1/4- تهذيبُ كلّ العلاقاتِ الإجتماعيةِ

ما يستحقُّ التأمُّلُ فعلًا هو أنَّ في هذا العصرِ يُهَذَّبُ آحادُ المجتمعِ فقط، أما في عصرِ الظهورِ تهذَّبُ العلاقاتُ الإجتماعيةُ بالإضافةِ إلى آحادِ الأفرادِ، يعني تصبحُ العلاقاتُ الاجتماعيةُ علاقاتٌ ملكوتيةٌ و قائمةٌ على أساسِ التقوى و القربِ من اللهِ.

قد تسبّب العلاقاتُ الإجتماعيةُ و اللقاءاتُ إحياء الرذيلةِ في النفوسِ، فأحيانًا تخلُقُ الإدارةُ الماديَّةُ صفاتًا نفسانيةً كالحسدِ و الإستكبارِ ، العلاقاتُ بينَ أفرادِ مؤسسةٍ مَّا إن لم تكن حسنةً فهذا ناشئٌ من الطبقةِ العليا في هيكليَّتِها ، و التي تقومُ على روحِ الإستكبارِ ، فينتُجُ أفرادُ الطبقةِ السفلى -التي تتربَّى بين يديِ الطبقةِ العليا - و قد تربَّوا على الدناءة و الحسدِ. لكنَّ العلاقاتِ في إدارةِ جبهةِ الحقِّ ليست كذلك فهي توجِدُ الحبَّ والتقوى، كلُّ العلاقاتِ تدورُ مدارَ التقوى، لا على مدارِ الشَّهَواتِ.

 تجري في مجتمعِ وليِّ اللهِ (الحبُّ في الله) و (البغضُ في الله) في كلِّ الأحداثِ و اللقاءاتِ الإجتماعيةِ، أي أنَّ كلَّ العلاقاتِ تتكوّنُ و تنشأُ من محبةِ اللهِ، و تتَبَدَّلُ كلُّ العلاقاتِ الإجتماعيةِ إلى أن تصبحَ منشأَ قربٍ من اللهِ فلا يبقى مجالٌ فيها لعبادةِ الدّنيا، إن كانت رؤيتُنا هكذا، تحت ولايةِ وليِّ اللهِ بالطَّبعِ، فإنَّه سوفَ يحدُثُ انسجامٌ كاملٌ بينَ العالمِ الإنسانيِّ و العالمِ الخارجيِّ العينيِّ و سوف تصبحُ كلُّ العوالمِ نورانيّةً.

يصبحُ التعبيرُ في هذه الحالةِ بـ (النِّعمِ الماديةِ) خاطئًا، حيث كلُّ النعيمِ و النعمِ المتنوعةِ التي هي تحت تصرفِ البشرِ، تغدو نعمًا معنويةً و إلهيةً، لا تنتهي أيٌّ منها بالإنسانِ إلى حبِّ النفسِ، و الإبتهاجِ بالإستكبارِ، بل كلُّها مليئةٌ بالابتهاجِ برحمةِ اللهِ سبحانه و تعالى.

لقد وُضِعْنا في ظروفٍ، بسببِ جرَيانِ ولايةِ الباطلِ، بحيثُ خَسَرَت البشريةُ ظرفيتَها على إدراكِ نِعَمِ اللهِ ورحمتِهِ فضلًا عن تحصيلِها فأصبحت البشريةُ تعيشُ الظلُماتِ.

إنِ استرجعَت البشريةُ تلك الظرفيةَ فإنَّها سوف تصبِحُ في حالِ ابتهاجٍ دائم، بحیثُ لا یمکنُ مقارنةُ لحظة من ذلك الاحساسِ مع كلِّ ما في جبهةِ الباطلِ! سوفَ تظهرُ بعض حالاتِ البهجة الباطنية لأولياءِ اللهِ في كلِّ الجلواتِ الإجتماعيةِ في عصر الظهور. لا أعلمُ إن كان يمكنُ أن نعبّرَ عن الإنسانِ الواصلِ إلى هذه المرحلةِ بالإنسانِ الكاملِ أو بالإنسانِ العبدِ يعني الإنسانُ المتولّي بولايةِ اللهِ وبتعبيرٍ صحيح (الشيعيّ) أنا استبدل مصطلحُ الإنسانِ الكاملِ بالشيعيِّ لأنَّ التعبيرَ الأوّلَ يختصُّ بالعرَفاءِ و له اعتبارُه، حيث أنّ ما ذكروه من تعاريفٍ و خصالٍ للإنسانِ الكاملِ تختلفُ عمَّا جاء في معارفِ القرآنِ و أهلِ البيتِ عليهمُ السلامُ عن الشيعيِّ و المؤمنِ.

أفضلُ تعبيرٍ هو (الشيعيُّ) و تعني الإنسانُ الذي يصبحُ شعاعًا لوليِّه، كما جاء في الرواياتِ : (إنَّ روحَ المؤمنِ أشدُّ اتّصالًا بروحِ اللهِ من شعاعِ الشمسِ بها)[7] ، ذُكِر في الرّواياتِ المتعلِّقَةِ بالفطرةِ عن الشيعةِ أنَّ الشيعةَ قد خُلِقوا من فاضلِ بدنِ أهلِ البيتِ عليهمُ السلام و عاقبتُهم هي نفسُ عاقبةِ أهلِ البيتِ عليهم السلام، لذلك فالشيعيُّ متَّصلٌ بوليِّهِ يدورُ حولَه و يتحرَّكُ وفقًا لإرادتِه.

عصرُ الظهورِ هو عصرُ تجلِّي التَّشيُّعِ. في البدايةِ يستكملُ الناسُ في درجةِ تشيُّعِهم حتى يصبحوا شعاعَ ومنبعَ الحياةِ و النورِ، تُنفَخُ فيهم روحُ الحياةِ و النُّورِ فيغرَقون في جذباتِها.

2/2- التقدُّمُ الرّتبي لتحقُّقِ الولايةِ الإلهيةِ على تحققِ العدالة

2/2/1- تعريفُ العدالةِ المنسجمِ معَ ولايةِ اللهِ تعالى

* قد يُعتَبَرُ أحدُ الأمورِ المهمَّةِ التي لها أثرٌ كبيرٌ في تحليلِ (واقعةِ الظهورِ) و حركةُ الإمامِ صاحبِ العصرِ و الزَّمانِ عجلَ اللهُ تعالى فرجه الشريف هو كثرةُ تأكيدِ الرّواياتِ على مسألةِ انتشارِ العدلِ في زمنِ الظهورِ، بل يُمكنُ القولُ أنَّ انتشارَ القِسطِ و العدلِ هو المحورُ الأساسُ في كلِّ الرواياتِ التي تُبيِّنُ تحولاتُ عصرِ الظهورِ، و يمكنُ أنْ يُطرَحَ السؤالُ التالي: ما العلاقةُ بينَ انتشارِ العدلِ و التحوّلاتِ الحاصلةِ في الإنسانِ و ما هو دورُ تكاملِ الإنسانِ فيها؟

الجوابُ:

للإجابةِ عن هذا السؤالِ لابدَّ من الإشارةِ إلى بعضِ الأمورِ أوّلًا، ثمَّ نُلَخِّصُها و نجمعُ بينها حتى نستخلصُ النتيجةَ.

أوّلًا: العدلُ منَ الصفاتِ الفِعليَّةِ لله تعالى، يعني أنَّ العدلَ فعلُ اللهِ، فعلُ اللهِ حكيمٌ وعدلٌ، و لذلك فطرةُ الناسِ تطلبُ العدلَ، فطرت الناسُ على حبِّ العدلِ فهيَ مسألةٌ يشتركُ فيها البشريةُ.

ثانياً: الإنسانُ يتحقَّقُ رُشدَه في محيطٍ فرديٍّ و آخرَ اجتماعيٍّ، فمِنَ الممكنِ أن يتغيرَ مفهومُه عن العدالةِ بالتدريجِ.

إن كان تحت ولايةِ إبليسَ من الطبيعيِّ أن يتغيّرَ مفهومُ العدالةِ لديه، بحيثُ يرى وقائعَ الجورِ عدلًا، و الحالُ نفسُه يقعُ في المعروفِ و المنكرِ حيثُ خلقَ اللهُ الإنسانَ مُحِبًّا للمعروفِ لكن قد يصلُ الإنسانُ إلى حدٍّ يرى فيه المنكرُ معروفًا و المعروفُ منكراً.

سوف يقعُ هذا الأمرُ في آخرِ الزمانِ كما جاء في الرواياتِ، سوف يتغيّرُ مفهومُ الجمالِ عندَ البشرِ، هدفُ إبليسَ هو أن يغيِّرَ تعريفَ الجمالِ عند الناسِ لتتحرّك إرادتُهم نحوَ الدنيا وعبادةِ النفسِ.

وعندَ وقوعِ ذلك سيقعُ تبعًا له الإختلافُ بينَ الناسِ في تصوُّرِهم للعدالةِ في الوقائعِ الإجتماعيةِ حيثُ سيراها البعضُ عادلةً في حينٍ يرى آخرون أنَّها جائرةٌ.

ثالثاً: لأنَّ الناسَ تميلُ إلى العدلِ بالفطرةِ، فإنَّ من الجلواتِ الأساسيةِ التي لابدَّ أن نجذبَ الناسَ إلى عصرِ الظهورِ من خلالِها هي موضوعُ العدلِ. تعتبرُ الدعوةُ إلى العدلِ من أفضلِ أنواعِ الدعوةِ في مقامِ الإثباتِ والتبليغِ بل حتى في مقامِ الثبوتِ فمالم تتحققُ العدالةُ واقعًا لن يتحققَ القربُ مطلقاً.

رابعاً: أعتقدُ أنَّ العدلَ المجعولَ في فطرةِ الإنسانيةِ هو عبارةٌ عن أحوالِ الولايةِ الإلهيةِ. نحن لا نُنكِرُ الحُسنَ و القُبحَ الذّاتيّين – مثل الأشاعرةِ- لكننا لا نفرضُ وقوعَ الذاتيّ قبالَ ولايةِ اللهِ تعالى، ثمَّ نعبّرُ بأنَّ الحُسنَ و القبحَ هناك ثم نقولُ أنَّ الحسنَ و القبحَ هي قوانينٌ أساسيةٌ ملزَمَةٌ لله أيضًا! بل لابدَّ لنا من أن نعرِّفَ الحسنَ و القبحَ بحيثُ تبقى تابعةً لولايةِ اللهِ، و لا يمكنُ التعبيرُ عنها بأفضلِ من كونِها حالاتِ ولايةِ اللهِ، في الواقعِ إنّ ولاية الله لا تجري إلّا في حالاتٍ خاصةٍ.

بعضُ مراتبِ الولايةِ لا تجري إلّا على المؤمنين وربَّما هي ما يعبَّرُ عنه بالربوبيةِ الخاصّةِ بالمؤمنين فقط (اللهُ وليُّ الذين آمنوا) تبدأُ من النبيِّ الأكرمِ صلى اللهُ عليه وآله والأئمةِ المعصومين عليهم السلام.

العدلُ هو ما ينسجمُ مع هذه الولايةِ التي تكفَّلت الشريعةُ بتبيينها في مختلَفِ أبعادِ الحياةِ، فتحقُّقُ الشريعةِ ليس إلّا عبارةٌ عن تحقُّقِ أبعادِ ولايةِ وليِّ اللهِ في جميعِ شؤونِ الحياةِ. يتحقَّقُ العدلُ في المجتمعِ عندما يتكاملُ بتولّي وليِّ اللهِ، وبتحقُّقِ مقدماتِ جريانِ ولايةِ وليِّ اللهِ في كلِّ نواحيهِ.

يبدأُ الجورُ بالظهور عندما يخرُجُ البشرُ عن ولايةِ اللهِ، كما يبدأُ الشرُّ بخروجِ المخلوقاتِ عن العبوديةِ، فيخرُجُ العبدُ عن ولايةِ اللهِ، وتُشرَّعُ أحداثُ الجورِ سواءً في علاقةِ الإنسانِ مع نفسِه أو في علاقتِه بالخارجِ كالطبيعةِ والحيواناتِ والناسِ.

أساسُ الظلمِ هو الخروجُ عن الولايةِ. إن كان الناسُ تحت ولايةِ وليِّ اللهِ لا يمكنُ أن يظلموا أبداً، لأنَّ وليَّ اللهِ تحت ولايةِ اللهِ تعالى مما يجعلُ كلمة مشيئة الله هي نفس مقام العصمة، فمع كلِّ ما لديهم من قدرةٍ لامتناهيةٍ إلّا أنّها لا تتخلّفُ عن مشيئةِ الحقِّ في كلِّ مراحلِ عزمِهم و إرادتِهم، إذا غرَقنا جميعُنا في ولايةِ اللهِ و سلّمْنا للحقِّ بالمستوى الذي يتحققُ فينا الإخلاصُ و تجري نورُ ولايةِ اللهِ على كلِّ أبعادِ حياتِنا، فإنَّه سوف يتحقَّقُ العدلُ في باطنِنا ثمَّ يسري إلى الخارجِ أيضاً.

عندما تدورُ إراداتُ المجتمعِ حولَ محورِ إرادةِ اللهِ فإنَّ كلَّ العلاقاتِ تقامُ على العدلِ، ويتحققُ العدلُ عندما نسلِّمُ جميعُنا لله وعندَما تصبِحُ إراداتُنا مجاري لتحقّقِ أوامرِ اللهِ وإرادتِه ومشيئَتِه. نصبِحُ نحنُ مَجارِ للعدلِ فيجري العدلُ في باطنِنا يعني في صفاتِنا، سلوكيّاتِنا، عقائدِنا، كما يجري في أمورِنا الخارجيةِ كعلاقَتِنا مع الآخرين وعلاقتِنا بالطبيعةِ وغيرها.

الخلاصةُ أنَّ حقيقةَ العدلِ عبارةٌ عن جرَيانِ ولايةِ اللهِ في كلِّ شؤونِ الحياةِ. إن كان عصرُ الظهورِ هو عصرُ العدلِ أي أنَّه عصرُ العبوديةِ.

ما يُفهَمُ من العدلِ في عصرِ الظهورِ ليس هو المفهومَ المادّيَّ للعدلِ، حتى في جلوتِه الاقتصاديةِ، بل إنَّ الأوضاعَ الإقتصاديةَ القائمةَ على العدلِ تتحقّقُ عندما تدورُ كلُّ تنعّماتِ البشرِ في حياتِهم الإقتصاديةِ حولَ محورِ ولايةِ وليِّ اللهِ.

2/2/2- التغييرُ الجائرُ في كلٍّ من الشواخصِ و مفهومِ الجمالِ

إنّ العدلُ الذي سيتحققُ في عصرِ الظهورِ هو ما تطلبُه الفطرةُ و ليس ما يطلبُه البشرُ اليومَ، حيثُ استطاع الشيطانُ أن يغيّر مفهومَ العدلِ و مفهومَ الجمالِ عندَ الناسِ ثمَّ وضَعَ معادلات بمفاهيمَ محرَّفةٍ، هذا العملُ وقعَ في منظومةِ المادّيّين و هو يمثّلُ جزءًا من بروتوكولات اليهودِ اليومَ، و ينصُّ على أن يخضع البشرُ بأجمعِهم إلى القانونِ ثمَّ يقومون بكتابة القوانين بأنفسهم!

إن بدَّلتم قوانينَ العدلِ بقوانينَ الرأسماليَّةِ الذي يَحملُ في متنِه الجور والظلم، فإنَّ كلَّ ما سيتحقَّقُ بعنوانِ العدلِ هو ظلمٌ كما هو واضحٌ. رأيتم كيفَ أنَّ بعضَ الموازينِ عندما يميلُ أحدُ جانبَيه إلى طرفٍ معيّنٍ فإن وَضَعتم 100 كيلو في الجانبِ الآخرِ وكيلو واحد في الطرفِّ المائلِ فإنَّ ذلك الكيلو هو الغالبُ، هذا ليس هو ميزانَ العدلِ.

عندما يُصبِحُ ميزانُنا هو الجور وعندما نخطِئُ في اختيارِ المحورِ الشاخصِ الذي ندورُ حولَه كيفما دارَ، فلن يتحقَّقَ العدل.

ما يقومُ به إبليسُ هو تبديلُ باطنُ الإنسانِ والعلاقاتِ الإجتماعيةِ فيقلّبُ الموازينُ الباطنيةُ ولذلك نجدُ الإنسانَ يخطئُ في التشخيصِ و تختلط عليه المحاسنُ بالمساوئ، فيشخّصُ تشخيصاً جائراً. منشأُ شرِّ آخرِ الزمانِ هو قلبُ ميزانِ الإنسانِ والموازينِ الإجتماعيةِ.

عندما يريدُ الإمامُ المهديّ عجّلَ اللهُ تعالى فرجَه الشريفِ تحقيقَ العدلِ فإنّه أوّلًا: يصلِّحُ الموازينَ حتى نعرفَ المفهومَ الصحيحَ للعدلِ؛ و لا يستخدمُ نفسَ ميزانِ الجورِ لتحقيقِ العدالةِ. فما لم يتغيّرْ الميزانُ الباطنيُّ للإنسانِ و ما لم تتغيّرْ الشواخصُ الباطنيّةُ فإنّه لن يكفي تغييرُ الشواخصِ الخارجيةِ لتحقّقِ العدلِ.

 

2/2/3- تركيبةُ المجتمعِ الولائيِّ و الحاضرِ في عصرِ الظهورِ

* نفهمُ ممَّا ذَكرْتم أنَّه لتتحقّقِ العدالةِ الإجتماعيةِ لابدَّ من تحقُّقِها في الانسانِ نفسِه أوّلاً.

الجوابُ:

لابدَّ من تحقّقِها في نفسِ الإنسانِ و في نسيجِه الفكريِّ، حيثُ يأتي الإمامُ ليُصلِحَ هذا النسيجَ و يُصلِحَ إدراكَ الإنسانِ إلى الحقِّ و الباطلِ، العدلِ، المحاسنِ و المساوئِ، بل بكلمةٍ جامعةٍ: يصلحُ نظامه في الموازين.

لأنَّ الإنسانَ في حالِ تقديرٍ دائمٍ، ما يفعلُه طوالَ حياتِه عبارةٌ عن وزنِ الأعمالِ، وتشخيصِ أيِّ الأعمالِ أفضل ليفعلَه، فإن كان ميزانُه جائراً فستصبحُ كلُّ حركاتِه جائرةً، عندها سيرى الحُسنَ قبيحًا والقبيحَ حُسناً. أمّا الجورُ فهو عبارةٌ عن الظلمةِ التي تتلبّسُ بلباسِ العدلِ في حالِ تغيُّرِ ميزانِ الإنسانِ.

الإمامُ يصلحُ الموازينَ الباطنيةَ للإنسانِ و موازينَ المجتمعِ. يعني أنّه يصحّحُ مقرَّ العدلِ أوّلًا لتصبحَ الأحوالُ الباطنيةُ عادلةً. إنَّ شرَّ آخرَ الزّمانِ -وهو أسوأُ الشرورِ في الواقعِ- هو ذلك الشرُّ الذي يتبدَّلُ فيه المعروفُ إلى منكرٍ، و الظلمُ إلى عدلٍ.

و ذلك نتيجةُ تغيُّرِ الموازينِ، و تغيُّرِ مفهومِ الجمالِ، و عندما تصلُ الإراداتِ إلى قمَّةِ الإنحرافِ و الإنحطاطِ، فيحكمُ الظلامُ المطلقُ. ففي الظلامِ المطلقِ يمكنُ جعلُ لبَناتِ الطينِ مكانَ قِطَعِ الذهبِ.

في الحقيقةِ إنَّ موازينَ البشريّةِ يتمُّ استبدالُها في الظلماتِ، الظّلُماتُ التي سَرَت من السقيفةِ و أحداثُ انحرافِ الولايةِ هي التي تسبَّبَت في تخريبِ موازينِ البشَرِ و سوف يأتي الإمامُ ليُصلِحَ هذه الموازينَ حتى يظهَرُ العدلُ الخارجيُّ. و المرادُ هنا هو إصلاحُ الأفكارِ لتدورَ مدارَ الولايةِ و هذا هو التحوّلُ الأساسيُّ في عصرِ الظهورِ.

بعبارةٍ أخرى: ميزانُ العدلِ هو نفسُ وليِّ اللهِ و لذلك نحنُ نخاطبُ أميرَ المؤمنين عليه السلام قائلينَ: (السلامُ عليك يا ميزانَ الأعمالِ). لا يوجدُ لدينا ميزانٌ آخر في عرضِ وليِّ اللهِ حتى نزنَ وليَّ اللهِ به بل هو نفسُه عليه السلام الميزانُ لكلِّ شيءٍ.



[1] الصحيفة السجادية، المناجاة الثالثة عشر: مناجاة الذاكرين.

[2] النهج، الحكمة 234.

[3] دعاء كميل.

[4] آل عمران: 162.

[5] راجع: الكافي، ج1، باب فيه نكت و نتف من التنزيل في الولاية.

[6] النهج: خ 192.

[7] الكافي، ج2، 168.

  • 20 September 17 ، 16:39

القسم الأول: الأركانُ الكلية في فلسفة التاريخ الشيعيّ

 

يُعتبَرُ البحثُ في فلسفةِ آخر الزمان من الأبحاثِ الأساسيَّةِ في فلسفةِ التاريخِ. قلَّما یُبحَثُ في علمِ فلسفة التاريخ سواء في المعارفِ الإسلاميةِ عمومًا أو في المعارفِ الشيعيةِ على وجهِ الخصوص.

بعبارةٍ أخرى: لم يتمَّ حتى الآن استخراجُ نظريةِ الإسلامِ في مستقبلِ التاريخِ حسبَ ما وردَ في الآياتِ و الرواياتِ، و لم تُنقَّحْ العواملُ المؤثِّرةُ في تغييرِ المجتمعاتِ، و ما دورُ الانسانِ في مستقبلِ التاريخِ و غيرِها من الأبحاثِ.

بناءً على ذلك، وقبلَ البدءِ بالحوارِ حولَ (تأثيرِ الانسانِ على مستقبلِ العالمِ في فلسفةِ التاريخِ الشيعيِّ)؛ لابدَّ لنا من ذكرِ نُقاطٍ أساسيَّةٍ مؤثِّرةٍ في تعريفِ فلسفةِ التاريخِ ولها دورٌ فيما وقعَ من اختلافٍ في الآراءِ بين آراءِ مدرسةِ الشيعةِ في فلسفةِ التاريخِ وغيرِها من المدارسِ.

* يُعتبرُ علمُ فلسفةِ التاريخِ منَ العلومِ النظريةِ و هُوَ العلمُ الذي يتناولُ تحليلَ التاريخِ و تعليلِه باعتبارِها كليَّاتٍ منسجمةٍ و مبنيةٍ على قواعدَ مترابطةٍ بحيثُ تَظهرُ نتائجُها على شكلِ آثارٍ عينيّةٍ ، كما يبحثُ هذا العلمُ في عدَّةِ أسئلةٍ مثلُ: عللُ ظهورِ الحرکة في التاريخِ و تكامله و مراحله ، بدايةُ التاريخِ و نهايتُه، دورُ خالقيةِ الله و ربوبيته، كما يبحثُ في إراداتِ الانسانِ و أثَرِها في ظهورِ التاريخ و تحوُّلاتِه ، تقسيمُ الجبهات التي شَكَّلَت التاريخَ و تعيينُ حدودِ تأثیرِها و العواملُ المؤثرةُ فيها و أصولُها و... كلُّ هذه الأسئلةِ یبحثُها علمُ فلسفةِ التاریخِ و يُجيبُ عنها.

1/1- المحورُ الأساسيُّ في تحليلِ التاريخِ هو خالقيةُ اللهِ و ربوبيَّته

عندَ الحديثِ في فلسفةِ التاريخِ الاسلاميِّ لا بدَّ منَ الاهتمامِ بخمسِ مسائلَ أساسيّة، المسألةُ الأولى هي أنَّ فلسفةَ التاريخِ الاسلاميِّ قد تأسَّسَ على أساسِ الإعتقادِ بحاكميَّةِ إرادةِ الحقِّ على كلِّ التاريخِ و سلطنةِ مشيئتِه، و يمكنُ بنظرةٍ عامَّةٍ تقسيمُ أفكارِ فلسفةِ التاريخِ إِلى قسمينِ كليَّين: بعضُها يقومُ بتحليلِ سيرِ حركةِ التاريخِ بغضِّ النَّظرِ عن حاكميَّةِ إرادةِ اللهِ و مشيئتِه و البعضُ الآخَرُ يُفَسِّرُهَا علَى أَساسِ حاكميَّةِ إِرادةِ اللهِ المتعالِ، و من الطبيعيِّ أنْ یبنى صرحُ التفكرِ الدِّينيِّ -خاصَّةً الشيعي منه- على محورِ حاكميَّةِ الحقِّ على كلِّ الخَلقِ. فكما أنَّ كلَّ العالَمِ نَاشِئٌ عنْ إرادةِ اللهِ و مشيئتِهِ وَ أَوْصَافِه الجماليَّةِ والجلاليَّةِ فإنَّهم يعتقدون أنَّه هو مبدأُ العالمِ و مُنتهاهُ و كلُّ التاريخِ هو مليءٌ بآياتِ عظمةِ اللهِ، و أنَّ التاريخَ هو مسيرُ تحقُّقِ إِرَادَتِه سبحانه.

بناءً على هذه الرؤيةِ ، لا بدَّ أنْ تفسَّرَ حركةُ التاريخِ على أساسِ خالقيَّةِ اللهِ و ربوبيتِه أيْ أَنَّه كما أنَّ اللهَ تعالى هو خالقُ كلَّ الوجودِ بما فيه البشر و حركة تكاملِ التاريخِ فقد تعهَّد بربوبيته حفظ التاريخ البشري و تكامله كما جاء في القرآن الكريم : (ربنا الذي أعطى كلَّ شيءٍ خلقه ثم هدى)

إنَّ تكاملَ الإنسانِ و هدايتَه نحوَ الكمالِ هو في عُهدةِ ربوبيَّةِ اللهِ،  فلم ينشأْ التاريخُ من جلوةٍ ماديةٍ و لم يحكم الجبرُ التاريخيُّ على تكاملِ التاريخِ، بل إنَّ خلقَ العالمِ و التاريخِ ناشئٌ من خالقيةِ الحقِّ تعالى، و تكامُلَهما ناشئٌ من ربوبيتِه تعالى.

1/2- التكاملُ هو نتیجةُ حرکةِ التاريخِ

المسألةُ الثانيةُ التي لا بدَّ منَ الإهتمامِ بها هي أنَّه في فلسفةِ التاريخِ الإسلاميِّ ، نجدُ أنَّ العالمَ يتحرَّكُ نحوَ الكمالِ فإنْ قَبِلْنا بالأصلِ الأوَّلِ و هو أنَّ حكمةَ الحقِّ و ربوبيَّتِهِ هي  الحاكمةُ على حركةِ التاريخِ فلابدَّ أن نقْبلَ بأنَّ كلَّ التاريخِ يتحركُ نحوَ الكمالِ، أيْ أنَّه لا يمكنُ أنْ يتحرَّكَ العالمُ بأجمعِهِ حركةً نزوليةً، فحرکتُه نحوَ الكمالِ تُصبِحُ حتمِيَّةً وِفْقًا للأصلِ المذكورِ لأنَّ هذا ما ينسجمُ مع الحكمةِ.

فكما تعتمدُ نظريةُ فلسفةِ التاريخِ الاسلاميِّ على خالقيةِ الحقِّ و ربوبيّتِهِ فهي تعتمدُ على المعادِ أيضًا يعني أنَّها تُفسِّرُ الحركةَ الكلِّيَّةَ للعالمِ أنَّها تَتَّجِهُ نحوَ القربِ منَ اللهِ تعالى، و نعتقِدُ أنَّهُ في إحدَى مراحلِ حركةِ التاريخِ سوفَ يقعُ حدَثٌ عظيمٌ هو عبارةٌ عنِ المعادِ و رُجُوعُ عمومِ النَّاسِ إلى اللهِ تعالى، تَصْحَبُ هذه العودةُ حوداثَ عديدةً تشملُ كلَّ عالَمِ الخلقةِ.

نحنُ نعتقدُ أنَّ السَّيرَ الكلِّيِّ للتَّاريخِ هو سيرٌ نحو الكمالِ، وَ لِأنَّ الكمالَ ليس هو إلَّا القربَ من اللهِ تعالى و انتشارَ العبوديَّةِ ، فإنَّ الحركةَ الكلِّيَّةَ للعالَمِ سوفَ تُخْتَمُ في النِّهايةِ بانتشارِ عبادةِ اللهِ تعالى و كمالِ عبوديَّتِه.

1/3 المُوَاجَهَةُ التَّاريخِيَّةُ بينَ الإيمانِ و الكُفْرِ الواقعِ تحت ظِلِّ مشيئةِ اللهِ

المسألةُ الثَّالِثَةُ الَّتي لا بدَّ منَ التَّأْكيدِ عليها في تحليلِ فلسفةِ التاريخِ الإسلاميِّ هي عبارةٌ عن دورِ إراداتِ الإنسانِ و أَثَرِها في حركةِ التاريخِ ، و لا نَعني بذلك أنَّه قد تمَّ تفويضُ شيءً مّا للإنسانِ -في عِرْضِ إرادةِ اللهِ تعالى- بل نقصدُ ما ذُكر من معنى في بحثِ الجبر و الإختيار عندَ الشِّيعةِ و المُتناسِبِ معَ معارفِ أَهْلِ البيتِ عليهمُ السلام ، لا جبرَ و لا تفويضَ بلْ أمرٌ بينَ الأمرَينِ.

لقد وهبَ اللهُ الإنسانَ إرادةً و لهذه الإرادةِ الإنسانيَّةِ دورٌ في تحقُّقِ حوادِثِ العَالَمِ بميزانِ و مِقْدارِ ما تأْذَنُ به المَشيئةِ الإلهيةِ و بميزانِ العَوْنِ الإلهي المُتَنَزَّلِ على الإنسانِ.

مِنْ هنا فقد ظهرَ اتِّجاهان لحركةِ التاريخِ ، قُسِّمَتْ إلى جبهتين : في إحدى الجبهتين إراداتٌ تعملُ على عبوديَّةِ اللهِ تعالى خاشعةٌ خاضعةٌ متذلِّلَةٌ بَيْنَ يديه سبحانَه و تعالى؛ أَيْ أنَّ هذه الإراداتِ مُسلِّمةً خاشعةً خاضعةً أمامَ الحقِّ تعالى، فالحركةُ الإراديَّةُ إمَّا أنْ تقعَ منسجِمَةً مع الرّبوبيّةِ الإلهيّةِ التشريعيةِ و يحصُلُ الإنسجامُ بينَ المَشيئةِ البالغةِ و فِعْلِ العبادِ لانسجامِ الرُّبوبيَّةِ التَّشريعيَّةِ مع الرّبوبيَّةِ التكوينيّةِ، و من جهةٍ أُخْرى : يَظْهَرُ طُغيانُ الموجوداتِ المُرِيدَةِ المُختارةِ كالإنسِ و الجِنِّ من حيثُ إرادتِها و اختيارِها.

و الجبهةُ الثانيةُ الَّتي توجَدُ ما يُعبَّرُ عنه بالتَّمرُّدِ و الإستكبارِ و التّعزُّزِ أَمَامَ اللهِ تعالى.

تسعى كلٌّ منْ هَاتَيْنِ الجبهتينِ إلى توسِعةِ دَائرةِ حَرَكَتِها، و مِن هنا تنشأُ المواجهةُ بينَ الحقِّ و البَاطِلِ فِي التَّاريخِ.

التَّعارُضُ الأَسَاسِيُّ في التاريخِ قائمٌ بينَ تَعَارُضِ الإيمانِ و الكفرِ، و العُبودِيةِ و الإستِكبارِ كما أنَّ الحركةَ الكُلِّيَّةَ للعالَمِ في النِّهايةِ تَتَّجِهُ نحوَ غَلَبَةِ العُبُودِيَّةِ. المَسْأَلَةُ الَّتي نَحنُ بحاجةٍ إلى التَّأمُّلِ فيها هي أَنَّه و إن كَانَتِ الإِرَادَاتُ الإنسانیّةُ حاضرةً في حركةِ التَّاريخِ إلَّا أنَّه ليسَ لَها دورٌ مُحوَرِيٌّ فكُلُّ التَّارِيخِ يتعيَّنُ بالمَشِيئةِ الإلهِیَّةِ البَالِغَةِ.

لا يُمكِنُ أنْ يُغَيِّرَ الإنسانُ منَ القوانينِ الكُلِّيَّةِ لِعَالَمِ الخلقةِ الَّتي هي عِبارةٌ عن ظُهُورِ مَشِيئَةِ اللهِ تعالى، بلْ إنَّ إرادةَ النَّاسِ تَعْمَلُ ضِمْنَ حُدُودِ هذه القوانينِ و هي في ضِمْنِ هذه القَوَانِينِ، و یُعْتَبَرُ تَأْثيرُهَا بمِقْدِارٍ محدودٍ و تابعٍ لتلكَ القَوانينِ الإلهيَّةِ.

تَتَحَرَّكُ كِلَا الْجبهتين -الحَقُّ و الباطلُ- بإذنِ اللهِ و مشيئَتِهِ الَّتِي تُفیضُ علیهم القدرةُ على الحركةِ و التَّأْثيرِ، فالمشيئةُ الإلهِيَّةُ فِي ضمنِ الحَركةِ الكُلِّيَّةِ العامةِ للتاريخِ هي تدعمُ و تؤَيِّدُ كِلَا الجبهتين فيظهرُ النِّزَاعُ بَيْنَ الحقِّ و البَاطِلِ ، عَلينَا أن نَلتفِتَ بأَنَّ قَولَنا أنَّ المواجَهَةَ الأساسیَّةَ في حَرَكَةِ الحقِّ و الباطِلِ هي المُوَاجَهَةُ بَينَ العُبُودِیَّةِ و الشَّيْطَنَةِ ، لا يعني عدمُ وُجُودِ نِزَاعٍ في داخلِ دَائرَةِ الكُفْرِ و الإستكبارِ وَ الشَّيْطَنَةِ، بلْ مِنَ المُمْكنِ أنْ يقعَ النِّزَاعُ دَاخِلَ الْجبهةِ نفسها بسببِ عبادَةِ الدُّنْيا، الاستعلاءِ و طلبِ السُّلْطَةِ كما جاء في القرآنِ: (تحسبُهُم جميعًا و قلُوبُهم شتًّى)[1] يوجَدُ تشتُّتٌ بينَ القُلُوبِ في داخِلِ جبهةِ الكُفْرِ و الإستِكْبارِ و لِذلك فإنّ مَنشَأ كثير من المُوَاجَهَاتِ الَّتي تَقَعُ في العالَمِ يَرجِعُ إلى ما يَحْصُلُ في داخِلِ تلك الجبهة. لكنَّ النِّزاعَ الأَصْلِيَّ العالمي الناتج من الحَرَكَةِ الكُلِّيَّةِ للتَّاريخِ هو نِزَاعُ الحَقِّ و البَاطِلِ و الكُفرِ و الإيمانِ.

1/4- اختلافُ مِقْدَارِ تَأْثيرِ الإِرَاداتِ في اتِّساعِ دَائِرَتَيْ الحَقِّ و البَاطِلِ

المسألةُ الرَّابعَةُ هي اختلافُ مُسْتَوَى الإرَادَاتِ سواءً في جبهةِ الحَقِّ أو الباطلِ، فَهِيَ لَيْسَتْ فِي عرضِ بعضِهَا البَعْضِ؛ بل إنَّ لِسَيْرِ إراداتِ الإنسانِ طَوَالَ التَّاريخِ نِظامٌ مُعَيَّنٌ و هذه المسألةُ مُهِمَّةٌ جدًّا في تحليلِ فَلْسَفَةِ التَّاريخِ الإسْلَامِيِّ.

بعضُ الإراداتِ هي إراداتٌ محوريَّةٌ في كلِّ التَّاريخِ بحيثُ تتأثر بها كُلُّ حَرَكَةٍ في التَّاريخِ.

إنّ أنبياءَ اللهِ و أولياءهُ هم محورُ الحَقِّ في جبهةِ الحَقِّ طوالَ التَّاريخِ، أما بقیَّة الإراداتِ فإنه يتم تحديد مَوْقِعِيَّتهَا في مسيرِ عُبُودِيَّةِ اللهِ حَسْبَ شِدَّةِ تِلْكَ الإراداتِ و قُوَّتِهَا.

الوُجودُ المُقَدَّسُ و النّورَانِيُّ للنَّبِيِّ الأَكْرَمِ صلّى اللهُ عليه و آلِه و أَهْلِ بيتِ العِصْمَةِ و الطَّهَارَةِ عليهمُ السَّلامُ همُ المحورُ الَّذي يدورُ في مَدَارِه کلُّ أنبياء الله و أولياؤه، وهم محورُ العُبُودِيَّةِ في كلِّ مَرَاحِلِ التَّاريخِ بناءً على المعارِفِ الشِّيعِيَّةِ. و لهذا قالوا عليهم السلام: (بنا عُرف الله و بعبادتنا عُبد الله) و (لولانا ما عبُد الله) يعني أنَّ كلَّ العَالَمِ يَسجُدُ لله بسببِ شِدَّةِ عُبُودِيَّتِهِم و خُضُوعِهِم، و تَبَعًا لعِبَادَتِهِم يَعْبُدُ الآخِرُونَ اللهَ سبحانه و تعالى في كلِّ المُستَوَيَاتِ،  و المَرَاتِبِ حتَّى أَنبياء أولوا العزم عليهم السلام فإنَّهم يتكاملون بوِلايتِهِم و عِنَايَتِهِم.

إنّ تأثيرَ الإراداتِ الأخرى يقع في المُستَوَيَاتِ الَّتِي تَلِيهِم، و لكنَّ تلكَ الإراداتِ هي إراداتٌ تَبَعِیَّةٌ و تأثيرُهَا على نَتَائِجِ التاريخِ محدُودٌ جِدًّا، فتُؤَثِّرُ على جَمَاعَاتٍ قَلِيلَةٍ و محدودةٍ.

بعضُ الإراداتِ الأُخْرَى مُؤَثِّرَةٌ في المِقْيَاسِ العَالَمِيِّ وَ بَعْضُهَا مُؤَثِّرٌ في مِقْيَاسِ تَاريخِ الحُضُورِ كإراداتِ الأَنبياءِ؛ خَاصَّةً أَنبياء أولوا العزم عليهم السلام.

كما توجَدُ إِرَادةٌ هي محورُ كُلِّ تَاريخِ العُبُودِيَّةِ و هي إرادةُ شَخصِ النَّبِيِّ الأَكرَمِ صلَّى اللهُ علَيْه و آله و أهلِ بَيْتِهِ علَيْهِمُ السَّلَامُ،كذلك الحالُ في الجبهةِ المُقَابِلَةِ، حيثُ تُوجَدُ إِرَاداتٌ هي محورُ حَرَكَةِ الكُفْرِ في العَالَمِ و تَأْثِيرُ محورِيَّتِهَا إمَّا إنَّه في مُستوَى جَمَاعَةٍ قَليلةٍ أو مُجْتَمَعٍ كبيرٍ كافرٍ في عصرٍ مَّا أَو على مُستوَى التاريخِ، كما هو الحالُ في شَيَاطينِ الجِنِّ ، فَيُعْتَبَرُ إبليسٌ عُنْوَانًا لمحورِ الإستكبارِ. بعضُ شَيَاطينِ الإنسِ أَيضًا هم محورُ الشَّرِّ طَوَالَ التاريخِ. كما قال تعالى (و كذلك جعلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإنسِ و الجِنِّ)[2] تلك الجَمَاعَةُ من شياطينِ الإنسِ الَّذينَ عَارَضُوا أنبياء أولوا العزم عليهم السلام هم محور شياطين التاريخ المذكورون في الروايات.

كذلك الشَّياطينُ الّذين عارضوا النَّبيَّ الأكرمَ صلَّى اللهُ عليه و آله و نظَّمُوا صُفُوفَهُم ضِدَّه. هم محورُ شيطَنَةِ الإنس و الجِنِّ في تاريخِ البشريَّةِ و الَّذين ذُكِرَت أَسْمَاؤُهم في الرِّواياتِ أيضاً.

إذن محاوِرُ جبهةِ الباطلِ هم أولياءُ الطَّاغوتِ حيثُ يسيرُ الإستكبارُ طوالَ التاريخِ وِفْقَ هدايتِهِم و يَدْعُونَ الآخرين إلى الطُّغيانِ و الإستكبارِ.

فمَعَ ما لِحُضُورِ إراداتِ البَشَرِ على التَّاريخِ و حرَكَتِهِ مِن تأثيرٍ إلَّا أنَّ هذه الإراداتِ تَدُورُ في مدارِ محوَرِ إراداتٍ أُخرى مُؤَثِّرَةٍ على كلِّ التاريخِ في كلٍّ من جبهتَيْ الحَقِّ و البَاطِلِ.

1/5- الإنْحِلَالُ التَّدْرِيجِيِّ للإِرَادَاتِ المَنفِيَّةِ في الإراداتِ المُثْبَتَةِ

المَسْأَلَةُ الأَخِيرَةُ و الجَامِعَةُ هي اختِلَافُ الميزانِ عندَ محوَرِ الكُلِّ في كلٍّ منَ الجبهتَيْن ، فالقَدَرُ المُتَيَقنُ أنَّ كُلَّ عَالَمِ الخلقَةِ و التَّارِيخِ هو غَلَبَةُ محورِ الكُلِّ في جبهةِ العُبُودِيَّةِ على محورِ الكُلِّ في جبهةِ البَاطِلِ؛ و إِن طَالَ النِّزَاعُ.

بتعبيرٍ آخرَ: يغلُبُ سُجُودُ النَّبِيِّ الأَكْرَمِ صلَّى اللهُ علَيْه و آلِه و أهلِ بَيْتِهِ عليهِمُ السَّلَامُ و عُبُودِيَّتُهُم على شيطنةِ الشياطينِ و في المرحلةِ التاليةِ يغلُبُ سُجودُ الأَنبياءِ على شيطنةِ الطَّواغيتِ و شياطينِ الإنسِ و الجِنِّ المُعَارِضِينَ لَهُم، فَتَتَّجِهُ حَرَكَةُ الكُلِّ نَحْوَ غَلَبَةِ العُبُودِيَّةِ، أيْ أنَّ ظَرْفيّةَ عبادةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيْه و آله في جبهتِهِ تغلُبُ ظَرْفِيَّةَ الإستكبارِ في جبهةِ الباطلِ. منَ الواضحِ هُنَا أنَّ هذهِ الغَلَبَةَ مِن لُطْفِ اللهِ تعالى و رُبُوبِيَّتِه الَّذي يُؤَيِّدُ عَمَلَ الخيرِ و ينصرُهُ، فشِدَّةُ عِبَادَةِ النَّبِيِّ الأَكرَمِ صلّى اللهُ علَيه وآله تغلُبُ شِدَّةَ استكبارِ إبليسَ طوالَ التاريخِ.

و لا يظْهَرُ هذا النّصْرُ في عالَمِ الدُّنيا فلا نَرَى غَلَبَةَ الحَضَارَةِ الإلهِيَّةِ على الحَضَارَةِ المَادِّيَّةِ و ذلك لأَنَّ تَطَوُّرَ الحَضَارَاتِ طَوالَ التاريخِ هو عبارةٌ عن سَرَيَانِ الإراداتِ الإنسَانِيَّةِ في الفَوَاعِلِ الَّتي ما دُونَهَا مثل الفواعلِ الطبيعيَّةِ الَّتي سَخَّرَهَا اللهُ للإنسانِ و جعلَهَا تحتَ إرادَتِه.

بعبارةٍ أُخْرَى: عندما تَتَعَارَضُ الإراداتُ الإنسانيَّةُ يَتَكَوَّنُ نظامٌ مُعَيَّنٌ للتَّاريخِ مُنسَجِمٌ ثُمَّ يَجْرِي في الطَّبِيعَةِ فيَسُوقُ ضِمْنَهُ الفَوَاعلُ المُسَخَّرَةُ بما يَتَنَاغَمُ مع محتواهُ و جِهَتَهُ، فيَصْبَغُهَا بصبغةِ إِرَادَتِه الخَاصَّةِ ، و هكذا تنتجُ الحضارةُ و تتكَوَّنُ.

عندما نُمعِنُ النَّظَرَ في التاريخِ نرى حضارَتَيْنِ طَوالَ التاريخِ، إحداهُما قائمةٌ على الإستكبارِ والأُخرى قائمةٌ على الإيمانِ والعُبُودِيَّةِ، ويوجَدُ بينهما عالَمٌ واسِعٌ منَ الإلتقاطِ وما يظهَرُ في النهايةِ هي الحضارةُ الإلهيَّةُ القائمةُ على محورِ العُبُوديَّةِ وولايَةِ وليِّ اللهِ الأعظمِ صلواتُ اللهِ وسلامُه عليهِ.

فهذه الدُّنيا ستنتهي بغلَبَةِ العبوديَّةِ الَّتي سوف تسري في كلِّ الخلقةِ، كما أنَّ حركةَ العَالَمِ تجري على محورِ ولايةِ النَّبيِّ الأكرمِ صلَّى اللهُ علَيه و آله و أَميرِ المؤمنين و أهلِ بيتِ العِصمةِ و الطَّهارةِ عليهمُ السَّلَامُ. و ليس على محورِ ولايةِ إبليسَ.

لذلك جاء في الرواياتِ الَّتي ينقلُها الفريقَينِ : (يا عليُّ أنت صاحبُ الجنَّةِ و قاسِمُ النِّيرَانِ)، و (يا نِعمةَ اللهِ على الأبْرارِ و نغمته على الفجَّارِ)؛ أيْ أنَّ مَدارَ الرّحمةِ و الغضبِ الإلهيَّیْنِ هو وجودُ وليِّ اللهِ الأعظمِ الّذي تُعتَبَرُ ولايَتُهُ استمرارًا لوِلَايَةِ النَّبيِّ الأَكرمِ صلَّى اللهُ عليه و آلِه  و استمرارًا لوِلَايةِ اللهِ كما قال سلام الله علیه: (وِلايتُنا وِلايةُ الله التي لم يبعث نبيًّا إلّا بها).

النتائِجُ الَّذي نستخلِصُها ممّا ذُكِرَ :

و إنِ اتَّجَهَتْ حركةُ العَالَمِ في دارِ الدُّنيا نحوَ عصرِ الظُّهُورِ - و في هذه الحركةِ الَّتي تُؤَدِّي فيها الإراداتِ الإنسانيَّةِ دَوْرُها - لكنْ لا يعني ذلك أنَّ الإراداتِ الإنسانیَّةِ المُتَعَارَفَةِ هيَ إراداتٌ محوريَّةٌ في حركةِ التاريخِ نحوَ الصّلاحِ. بلْ إنَّ محورَ الكلِّ في جبهةِ الحَقِّ هو رُبُوبِيَّةُ اللهِ تعالى و في داخلِ هذه الجبهةِ أيضاً فإنَّ إرادةَ وليِّ اللهِ هي محورُ إصلاحِ الكُلِّ و وِلايتِهم و هِدَايتِهِم، فوِلَايَتِه هي الّتي توصِلُ التاريخَ إلى النّقطةِ المطلُوبَةِ.

نحن لا نرى أنَّ شخصيةَ إمامِ العصرِ عجَّلَ اللهُ فرجَهُ الشَّريفِ هي شخصيةٌ أُسطوريّةٌ بل شخصيَّتُه واقعيةٌ و هو محورُ حركةِ العبوديَّةِ في عصرِنا، و تَنتَظِمُ حركةُ مَلَكُوتِ العَالَمِ و مُلْكِه بوَاسطةِ عبادَتِهِ عجَّلَ اللهُ فَرَجَهُ و على هذا النَّحوِ أيضًا تَتَحَقَّقُ الغَلَبَةُ النِّهَائِيَّةُ على جبهةِ البَاطِلِ.

لابدَّ منَ الإلتفاتِ إلى أنَّ الصِّرَاعَ بينَ الحَقِّ و الباطلِ ليس صراعًا سطحيًّا وظاهريًّا ... نحن أحيانًا نُلَخِّصُ الحُرُوبَ و الصِّراعاتِ في جَلَواتِهَا الظَّاهريَّةِ ؛ فَرَضًا عندما نَنظُرُ إلى ما حدَثَ يَومُ عاشوراءِ فإنَّ الحربَ الَّتي نرَاهَا هي عبارةٌ عنْ حربِ السُّيُوفِ و الرِّمَاحِ و الأَسِنَّةِ ، و تقَطُّعِ الأَجْسَادِ و الأَبدَانِ ، تَطَايُرِ الرُّؤوسِ و الأَيدي و تَعانُقِ الرِّمَاحِ و الأَسِنَّةِ. لكنَّ الحقيقةَ أنَّ وراءَ هذا الجهادِ -الّذي هو جِهَادٌ أصغرٌ- جهادٌ أكبرٌ تتصارعُ فيه النِّيَّاتُ و المُيُولُ و الإراداتُ .

بتعبيرٍ آخرَ: تتصارعُ الشَّهَوَاتُ و العُبُودِيَّةُ. إذا دقَّقْنا النَّظرَ هناك نرى تصارُعَ الأرواحِ فيما بينها، أحدُ طَرَفَيْهَا بقيادَةِ إبليسَ الَّذي يُنَظِّمُ صُفُوفَ كُلِّ الشهواتِ و الغضبِ و كلِّ الصِّفَاتِ الرَّذِيلَةِ و يشعلُ النَّارُ فيها؛ و في الطَّرفِ الآخَرِ هو بقيادةِ رُوحِ سيّد الشهداءِ أرواحُ العالَمينَ له الفِدَاءُ، هذه الرُّوحُ هي عَيْنُ العُبُودِيَّةِ و الخضُوعِ و مظهَرُ كلَّ الصِّفَاتِ الحَميدَةِ و الجبهةِ الَّتي ينظِّمُها قد قام بتنظيمِها بكيفِيَّةٍ أصبحَتْ من خلالِها مَظْهَرًا لصفاتِ الكمالِ. الحربُ في الواقعِ كانت بينَ هذه الصفاتِ الحميدةِ و الصّفاتِ الرَّذيلةِ و بينَ العُبُودِيَّةِ و الإستكبارِ.

إذا تأمَّلْنا أكثرَ نجدُ أنَّ هذه الحربَ قد وصلتْ إلى عالمِ المَلَكُوتِ و إذا نظرتُم في جلوةِ عبادةِ سيِّدِ الشهداءِ عليه السَّلامُ ستَرَوْنَ أنَّها تَسيرُ فوقَ عالَمِ الملكوتِ أيضًا، أيْ أنَّ سجدةَ سيِّدِ الشُّهَدَاءِ عليه السلامُ في موضِعِ قَتْلِه هي تلكَ السَّجْدَةُ الّتي غَرقَ بسبَبِها كلُّ المُلْكِ و المَلَكُوتِ في جَذَبَاتِ اللهِ و نِعَمِه، و لذلك وقَعَ ملكوتُ العَالَمِ في الحَيْرَةِ مِن هذه السَّجْدةِ، فكيف هو حالُ المُلْكِ!

عندما نَتَأَمَّلُ وَاقعةَ عاشوراءِ على هذا النحوِ سوفَ يتَّضِحُ لنا أنَّنَا نحنُ البشرُ لسنا محورًا لهذا الجِهادِ؛ و إن كان لنا دورٌ فيه و بمقدارِ هذا الدَّورِ نَتَحَمَّلُ مسؤوليَّةً. لا يُمْكِنُنَا أنْ نسلُبَ هذه المسؤولِيَّةَ تجاه حركةِ التاريخِ عن أنفُسِنا، حَرَكَتُنَا ليست حركةً جبْريَّةً، فقد وهَبَتْنَا المشيئَةُ الإلهيَّةُ الإرادةَ و عيَّنَتْ علينا التَّكليفَ، و لكنَّ مجموعَ ثِمارِ كلِّ إراداتِنا لا تُعْتَبَرُ إرادةٌ أصيلةٌ في حركةِ التاريخِ.

 

* لقد ذَكَرتم أنَّ الخصوصيَّةَ الثانيةَ في فلسفةِ التاريخِ الإسلامِيِّ هي عبارةٌ عنِ الإعتقادِ بحَرَكَةِ التاريخِ نحوَ الكمالِ. السؤالُ الَّذي يَتَطَرَّقُ إلى الذِّهنِ هنا هو: ما الفرقُ بينَ رَأْيِكُم و الرَّأْيِ القَائِلِ بأنَّ التاريخَ هو عبارةٌ عنْ مَرَاحِلٍ مُختَلِفَةٍ مُتَتَالِيَةٍ ، كلُّ مرحَلَةٍ هي عبارةٌ عن تَكَامُلِ المَرْحَلَةِ الَّتي تَسْبِقُهَا ؟ هلْ تعتقدون أنَّ كلَّ مرحَلَةٍ منْ مراحلِ التاريخِ هي أكملُ مِنَ المَرحَلَةِ الَّتي تَسْبِقُهَا فقط؟ أم أنَّ اهتمامَكم يتركَّزُ فقط على النُّقطَةِ النِّهائِيَّةِ لحركةِ التاريخِ -يعني القيامةُ-؟

الجوابُ:

يحدُثُ كمالٌ في مراحلِ التاريخِ لأَنَّ الحَرَكَةَ الَّتي تقعُ في التاريخِ إمّا حَرَكَةً منفِيَّةً أو مثبتَةً . نحن لا نعتَقِدُ أنَّ الحَرَكَةَ المَنفِيَّةَ في التاريخِ تساوي الصفرَ ثمَّ نقولُ أنَّه لا يوجَدُ شَرٌّ في التاريخِ! لأَنَّ الشَّرَّ سوف يَقَعُ بِتَحَقُّقِ إرادةِ المخلوقاتِ. بالطَّبْعِ الشَّرُّ هنا يَسْتَنِدُ إلى إرادةِ المخلوقاتِ و ليس إلى إرادةِ الرُّبوبِيَّةِ. و لا يَسْتَنِدُ الشَّرُّ إلى الأولياءِ المعصومينَ عليهمُ السلامُ فلا وجودَ للشَّرِّ في العِصْمَةِ ، هم مشيئاتٌ تساوي مشيئةُ الحَقِّ، و تَدْخُلُ في دائرةِ العِصْمَةِ تَبَعًا للحَقِّ تعالى.

لكنْ عندَمَا نَتَنَزَّلُ مِن مرتبتهم تبدأُ الشُّرورُ بالظهور في عباداتِ الإنسانِ. إذا خَرَجَ الإنسانُ عن مَسيرِ عِبَادَةِ اللهِ تعالى يَظْهَرُ الشَّرُّ، لكنَّ هذه الإراداتِ المنفيَّةِ تَنحَلُّ في النِّهايةِ في الإراداتِ المُثْبَتَةِ، يعني أنَّ حركتَهَا المَنفِيَّةِ في النِّهايةِ تنحَلُّ كلَّما اشتدَّ القُرْبُ من جبهةِ الحَقِّ ثمّ تنحَلُّ في التاريخِ، مثلًا : جبهةُ الباطلِ قد نَظَّمَتْ صُفُوفَهَا في قِبالِ سيِّدِ الشُّهداءِ عليه السلامُ، و أَظْهَرَت شيطنتَهَا و عَصَت بأعلى المستَوَياتِ، لكنْ أ لَمْ تنتهي هذه الشيطنةُ الَّتي هي في جبهةِ الباطلِ إلى ظُهُورِ عبودِيَّةٍ أرقى في جبهةِ الحَقِّ؟

حتَّى إذا تركْنا تحليلَ مَا وقعَ على سيِّدِ الشهداءِ عليه السلامُ بسببِ صُعُوبَةِ تَحْلِيلِ شَخْصيَّتِه و عَظَمَةِ روحِهِ و انتقلْنا إلى أصحابِه، نصلُ إلى أنَّه حقيقةً لولا وُجودُ تلك المقاومةِ و الشَّيْطَنَةِ الّتي واجهت سيِّدَ الشُّهَدَاءِ عليه السلامُ لَمَا تَهَيَّأتْ الشُّروطُ لِظُهُورِ الإطاعةِ و التَوَلّي و الكَمَالِ في أصحابه عليهم السلامُ. إذن تَرَوْنَ أنَّ نتيجةَ هذا الصراعِ يختم في النّهايةِ بما ينفعُ جبهةَ الحقِّ، و بذلك تصُبُّ النّتيجةُ الكُلِّيَّةُ في منفعةِ الوِلَايةِ الإلهيَّةِ،  وإن حصلت إبتلاءاتٌ عظيمةٌ في بعضِ مراحلِ التاريخِ.

إذن حركةُ التاريخِ العَامَّةِ هي حركةٌ مُثبَتَةٌ و يُمكِنُ اعتبار الحركةِ المَرحَلِيّةِ في التاريخِ مثبتةً أيضًا بناءً على ما ذُكِرَ من معانٍ.

بأن نقولَ أنَّه في قبالِ هذه الشيطنةِ تحصلُ عبوديةٌ في جبهةِ وليِّ اللهِ؛ مثلاً في نفسِ تلك اللحظةِ التي دخلت فيها السقيفةُ إلى المَيدانِ و انشغلوا بالمعصيةِ العظيمةِ، في نفسِ تلك اللحظةِ كانت هناك عبوديةٌ و إخلاصٌ و سجودٌ من أميرِ المؤمنينَ عليه السلام في حالِ وقوعٍ، و هي مبدأُ نورانيّةِ كل الملكِ و الملكوتِ، هذه السجدةُ غلَبت تلك المعصيةُ. و إن ظَهَر في الدنيا أنَّ المعصيةَ هي الغالبةُ! لو لم تغلب سجدةُ أميرِ المؤمنين عليه السلام في تلك اللحظةِ، لكانت هزيمةُ الحقِّ قطْعيّةً.

إذا لم نرَ أنفسَنا محورَ الكلِّ بل اعتقدنا أنَّ وليَّ اللهِ هو محورُ الكلِّ، و إذا رأينا أساسَ الصِّراعِ یقع بينَ وليِّ اللهِ و أولياءِ الطاغوتِ فإنَّ انتصارَ جبهةِ الحقِّ يُصبِحُ حتميًّا في كلِّ الآنات و اللّحظَاتِ و يقعُ الكَمَالُ في مَتنِ الخلقةِ أيضاً.

 

 

 


 



[1] الحشر/ 14

[2] الأنعام/112.

  • 20 September 17 ، 16:35

بسم الله الرحمن الرحيم

أركان فلسفة التاريخ الشيعي و موقع عصر الظهور فيه

 هو عبارة عن حوار تم مع سماحة السيد محمد مهدي مير باقري حفظه الله ضمن عدة أقسام مهمة جدا ، حيث قدم فيها سماحة السيد الأستاذ مميزات أساسية بين أهل الحق و أهل الباطل، بين أنصار الحسين عليه السلام و أتباع يزيد ... 

ا

تمت ترجمة هذا الحوار سنة 1433 هـ من قبل فاطمة آل يوسف و طباعة و نشر 500 نسخة منه 

القسم الأول

القسم الثاني

القسم الثالث

  • 20 September 17 ، 16:33